ظل التأسيس
" انا ظل يمشي في ضوء الذاكرة، ابحث عن وجه لم يغادرني يوما "
في البدء كانت الخطوة الأولى، تلك التي تُخلّد في ذاكرة الزمن، كأنها ظلٌ طويلٌ يمتد عبر العصور، يلامس الحاضر ويُشكّل المستقبل. "ظل التأسيس" ليس مجرد حدث تاريخي عابر، بل هو روحٌ تسكن في جسد الأمة، تُحرّكها وتُوجّهها، كأنها نداء خفيٌّ من الماضي يتردد في أرواح الأحياء.
التأسيس هو اللحظة التي تُولد فيها الهوية، حيث تتحول الفكرة إلى واقع، والحلم إلى حجرٍ يُبنى عليه. لكن هذا التأسيس لا يموت بموت مؤسسيه، بل يظل كظلٍّ ممتدٍّ، يُلقي بثقله على كل من يأتي بعده. هو كالشجرة التي تُزرع بيدٍ حانية، ثم تنمو لتُظلل الأجيال القادمة، تُعطيها الثمر أحيانًا، وتُلقّي عليها الأوراق اليابسة أحيانًا أخرى.
في ظل التأسيس، نجد أنفسنا أمام مرآة الزمن، نرى فيها وجوه المؤسسين، أصحاب الرؤى والأحلام، الذين نحتوا الصخر بيديهم ليبنيوا وطنًا. لكن هذا الظل ليس دائمًا نورًا، فقد يحمل في طياته عتماتٍ وأسرارًا، كأنه صندوقٌ مغلقٌ من الذكريات، بعضها يُشرق كالشمس، وبعضها يُظلم كالليل.
التأسيس هو لحظة الخلق الأولى، حيث تُولد الروح الجماعية، وتتشكل الهوية. لكن هذه الروح لا تخلو من تناقضات، فهي تحمل في داخلها صراعًا بين الماضي والمستقبل، بين الأصالة والحداثة، بين الحلم والواقع. هذا الصراع هو ما يجعل ظل التأسيس دائم الحضور، كأنه شبحٌ يتردد في أروقة التاريخ، يُذكّرنا بأننا أبناء تلك اللحظة الأولى، سواء أردنا ذلك أم لم نرد.
في الأدب، يُصوّر التأسيس غالبًا كملحمةٍ بطولية، حيث الأبطال يُضحّون بكل شيء من أجل فكرةٍ يؤمنون بها. لكن الأدب أيضًا لا ينسى أن يُظهر الجانب المظلم من هذه الملحمة، حيث التأسيس قد يحمل في طياته دماءً ودموعًا، وحيث الأحلام الكبيرة قد تُدفن تحت أنقاض الواقع.
ظل التأسيس هو أيضًا مسؤولية، فهو يُذكّرنا بأننا ورثةُ ذلك الماضي، سواء كان مجيدًا أو مُثقَلًا بالأخطاء. نحن نحمل في أرواحنا بذور ذلك التأسيس، ونُساهم في تغذيته أو تقويضه. كل جيل يُضيف لمسةً إلى هذا الظل، إما أن يُضيئه أكثر، أو أن يُظلمه.
في النهاية، ظل التأسيس هو جزءٌ منّا، كأنه ندبةٌ في الذاكرة الجماعية، تظل تُذكّرنا بأننا أبناء لحظةٍ ما، وأننا نحمل في داخلنا روح تلك اللحظة، سواء أدركنا ذلك أم لم ندرك. هو ظلٌ يظل يُلاحقنا، يُلهمنا أحيانًا، ويُثقلنا أحيانًا أخرى، لكنه يظل دائمًا حاضرًا، كأنه صوتٌ خفيٌّ من الماضي، يُهمس في أذن الحاضر.