10
يبدو أنني اليوم مختنق ، والكتابة في جو يسوده الصمت والحزن ، تشيء بحروف حزينة ، وكلمات تنتحب ، وعبارات يلفها الأسى والألم !!
أن تتذكر مناسبات الفرح [ الحياتية ] أو السعادة في رمضان ، خير لك من أن تتذكر مناسبات الألم والحزن ، لكن من أين لنا أن نفرح في رمضان !! ونخرج بالحياتية فرح الصائم بفطره وفرحه بلقاء ربه !!
الفرح ضيف خفيف في رمضان ، فلا مناسبات زواج ولا خطوبة في شهر رمضان ، وكأن الشياطين تصفد ، فتصفد معها شياطين الدفوف والأعراس !!
لكن الحزن لا يعترف بخصوصية الشهر ، ولا يقيم له وزنا ، لابد أن يزورنا دون استئذان ، دون مراعاة لقداسة الشهر ، أو طمأنينيته !!
العام 1421 هـ
الموعد مساء آخر أيام شهر شعبان المبارك ...
بيان مجلس القضاء الأعلى يعلن ثبوت دخول الشهر !!
يخطر على بالي أن أقلد الناس ، أهنئ الجميع بشهر رمضان ، برسائل الجوال المكررة ، أو بالاتصال عليهم ، أول من جاء على البال الوالد والوالدة ،حفظهما الله ، ثم أخوتي وأخواتي ، ثم جدي لأمي رحمه الله ، ثم خالي وأعمامي !!
لا أدري لماذا قدمت خالي على أعمامي ، هل لأننا في الغالب نميل أكثر لأقارب الوالدة ونحبهم أكثر ، أم لأنه الخال الوحيد لنا في هذه الدنيا !!
هنأت خالي باركت له بالشهر دعوت له ودعا لي ، وكعادته الكرمية الحاتمية ، أول سؤال سألنيه [ متى تفطرون عندنا ؟ ] . ومعها الكثير من الإصرار بتحديد الموعد لتناول وجبة الإفطار .. حاولت التفلت والتنصل وتأجيل الموعد ذلك أني أعرف ظروفه الأسرية ، مع قلة ذات اليد ، أسرة من أحد عشر فردا ، وتحمل مصاريفهم خاصة أنهم جميعا في مقاعد الدراسة مثقل لكاهل رجل لا يتقاضى تقاعديا إلا [ 1500 ريال ] .. حددت له الموعد ... ثالث أيام رمضان إن شاء الله نفطر عندك !!
ودعته ولسانه يلهج لي بالدعاء بالتوفيق ...
عندما اتصلت أهنئ الوالدة برمضان ، أخبرتني أن [ الشغالة ] ستصل في الغد في التاسعة والنصف صباحا ، ولا بد أن أكون على رأس كبار مستقبليها ، وكيف أستطيع أن أوفق بين وصول سعادتها وبداية الدوام في المدارس ؟ خاصة وأنني مسؤول في المدرسة وقد نبهت على الجميع بضرورة الحضور المبكر وعدم التعذر برمضان كمدخل للتأخر والدعة والتكاسل !!
انهيت إجراءاتها ،،، وذهبت بها للوالدة ، وبينما أنا كذلك حتى رأيت من بعيد جموعا تحتشد ، زحام عظيم وسيارات مختلطة ، اقتربت أكثر ، فإذا بسيارة نوع ديهاتسو محملة بإسطوانات غاز ، مصطدمة وجها لوجه بصهريج مياه ...
هنا أحد شباب القرية ، سألته : [ خير إن شاء الله ]
قال يا أخي هذا [ خالك محمد ] وأبشرك أنه بخير نقلوه للمستشفى !!
بدت علي علامات الحزن ، تغيرت ملامح الوجه ، تصاعدت أنفاسي ، ضاق بي الفضاء الواسع ، السيارة لا توحي بنجاة راكبها ، اختلط الحديد بعضه ببعض ، حتى وكأنه قد عجن عجنا !!
استعجلت الذهاب للقرية ، لوالدتي ، لجدي !!
جئت للقرية فإذا بجدي يجلس أمام بيته ، كأنه ينتظر خبرا ، كأنه ينتظر قدرا يأتيه بخبر فلذة كبده ، ابنه البالغ من العمر سبعين عاما ، أخبرت والدتي وطمأنتها بأنه بخير ، تعالت أنفاسها ، وتحشرج صوتها ، وانهمرت دموعها ، كنت أتمنى أن أنزع منها كل ألم ، وأن أمسح من خدها كل دمعة ، لكني لا ألومها ، وكيف ألومها وهو أخوها الوحيد !!
جئت عند جدي ، مائة وعشرون عاما مرت ، هل رأيت يا جد حزنا ، هل أصابتك مصيبة ، هل مر بك شقاء ، هل عرفت لوعة فراق قبل ؟
كل هذه الأسئلة تبادرت لذهني وأنا أنحني أقبل رأسه ، اقتربت منه ، يبدو أنه لن يسمعني ، إني أخشى عليه ، أخاف أن يسقط بين يدي ، أقتربت أكثر ، وكأنه ينتظر مني خبرا ، قلبه الذي ينبض بين ضلوعه يخفق خفقان الوجل ، وينبض نبض الموجوع بألم الفراق ... جدي : خالي عمل حادث بسيط ونقلوه للمستشفى ، أبشرك انه بخير !! هيا يا جد أوصلك له !!
قال : هاااااااه !!
كأنه لم يسمع ، وهي والله قد استقرت بقلبه ، وعبرت فهمه ، لكن عساه أن يكون حلما ، أو لعله كابوس ... لكنها الحقيقة ، أخذت يده أساعده على النهوض ، أحمله على القيام ، فكأنما أناخته هذه المصيبة ، وكأن المائة وعشرين عاما لم تهد قواه ، ولم تضعف قوته ، بمثل ما فعل به هذا الخبر ! أخذته إلى السيارة وانطلقنا !!
في الطريق لم يهدأ البكاء ، أشعر بنحيب يشج صدر جدي ، ونياح يلجلج في صدر أمي ، وأنا أحاول التهدئة ، دعواتكم دعواتكم ، إن شاء الله أنه بخير ، وبعد مرورنا بالسيارة ورأتها أمي أيقنت أنه كان لها أخ ، كان لها سند ، كان لها عزوة ، رأت بقاياها متناثرة مع بعض دماء خالي المتناثرة على الإسفلت !!
وصلنا للمستشفى ، جميع أقاربنا قد وصلوا هناك ، العيون تمتلئ بالدموع ، والوجوه شاحبة ، والصدور ملتهبة حزنا وألما !!
قبل أن تقف السيارة وجدي يصيح [ محمد ، محمد ، محمد .. بشروني عن محمد ] وتعالت أصوات البكاء ، وزاد الصراخ رحمة بهذا الشيخ العجوز !!
أحدهم يقترب من جدي يمسك بيده ، يذكره بالله ، ويطمئنه أن المؤمن مبتلى ، ثم يطلب منه أن يترحم على ابنه محمد !!
يصيح جدي صيحة أقسم أنها هزت كيان كل من حضر الموقف ، ثم تشنج في أعلى سقف السيارة ، وأخذ يصيح وينادي ابنه محمد ، يطلب منه ألا يتركه ، يطلب منه أن يعود إليه ، يطلب منه أن يعينه ، أن يكون بصره الذي يبصر به بعد أن فقد البصر ، ويكون سمعه الذي يسمع به بعد أن فقد السمع ، وأن يكون قوته التي تعينه بعد أن هد الكبر قواه !!
وما كانت أمي بأحسن حال من جدي ، بكاء ونحيب وصياح ونياح ، تمنيت وقتها أنني لم آخذهما للمستشفى ، تمنيت أنني اختصرت كل مسافات الحزن ، ومساحات الوجع ، ولم أر مشهد جدي وهو يتشنج في سقف السيارة !!
وكان رمضان ، وجئت يا أيها الرجل الكريم ، كي أحقق طلبك ، كي أتناول طعام الإفطار في بيتك ، في منزل كرمك .. ولكن !! بدونك !!
وذهب رمضان من بعد رمضان ، ولا زال أول يوم من رمضان ذكرى مؤلمة في قلب جدي ووالدتي ، لا زال جدي يجر الآهة بعد الآهة ، يتحشرج الألم في صدره ، فيظهر في صورة دموع يخفيها لكنها تفضحه عندما تبلل لحيته .
ولا أظن أن قلبي جدي وأمي قد عرفا فرحا بعد هذا الفقد ... ورحم الله خالي الطيب جدا !!
يتبع بإذن الله