في السنوات التالية ، أصبحت أكثر صوماً للأيام كما أن الصورة للحياة الرمضانية صارت أكثر وضوحاً ، أصبحت أذهب مع والدي بعد الافطار الى صلاة التراويح ، وبرنامج اللعب صار أكثر ترتيباً من ذي قبل ، فقبل الافطار نقاوم الجوع والعطش بشتى الوسائل ، السباحة في النهر ، متابعة المسلسل التاريخي موسى بن نصير ، أما بعد الافطار ، فأول مانتوجه اليه هو لعبة الحرب ، متأثرين بما شاهدناه قبل الافطار عندما كنا منهكي القوى ،أما الآن فلا مانع من جولة ، نصب فيها جام غضبنا على تلك السيوف الخشبية ، ونجول ونصول بتلك الأحصنة التي كانت منا وفينا ....؟
لم أكن أتذكر حينها نمط الحياة الاجتماعية عند من هم أكبر مني سناً ، ولكن الواضح عندي حينها ، أن نمط رمضان في مدينتي بتلك الفترة ، كان أشبه بغيره من المدن المتوسطة ، يضاف اليها أن الحي الذي أنا فيه " حي البدو " نمط من أنماط الأحياء الشعبية ، تظهر فيه جلية تلك الأجواء الحميمة من تبادل الزيارات وتجمع الرجال أمام الرصيف ، وتراكض الأولاد الصغار يهمون باللعب هنا وهناك ، كما أن تبادل الأطعمة بين الجيران قبل لحظة الافطار ، أمر شائع ، أضف الى ذلك كثرة العزائم والولائم ، حتى أن بعض الرجال كانوا يتهربون عن هذا وذاك لعلهم يكسبون يوماً يفطرون فيه مع عيالهم ....
الأجواء غاية في الروحانية ، والمجتمع الذي ترعرعت فيه غاية في البساطة والوضوح ، ولرمضان في تلك المرحلة من حياتي ، نوافذ لاترحل ، تظل تهديني نسماتها عند كل تاريخ يشير اليها ، تواريخ تلك الأيام ، ليست أرقام ، انما الناس اللذين كانوا هناك ، الروائح التي كانت تعبق بالمكان ، أنواع الأطعمة ،الأصوات التي كانت حاضرة ، وأشياء أخرى تنتاب نوافذي بين الحين والحين فأبكي تلك الأيام التي لم ولن تعود ....