حكاية لك ... و للتاريخ
من أين يا صديقتي أبدأ ...
لعلي أعود بك للزمن الجميل يا هاربة من التاريخ ...
زمن طفولتك وبراءتك قبل أن تكبري ويسكنك المكر والخداع كما أنتِ اليوم
وقبل أن تعرفين كيف تخبئين الأيام وكيف تسرقين الأحلام وكيف تقرين خلف أسوارك المرصودة بقواطع العمر ...
والأحلام .
أتذكرك حين كانت والدتك تزور والدتي في بيتنا القديم في ذاك الحي العتيق المزدحم بالناس البسطاء الكادحين طالبي الرزق
أتذكرك حين كنت تأتين معها ممسكة بطرف عباءتها وكأنك خائفة أن تطير أو تتركك للرحيل
وكنت أراك ترتدين تلك التنورة المزركشة وبلوزة مرسوم عليها وردة وعصفور
وكنت ألمح ظفائرك المعقوصتين بالكاد تصلان حد كتفيك فشعرك في تلك الأيام لم يتحول بعد إلى شلالات من سواد كما هو اليوم
لم أكن أحسن حالاً منك في تلك الأيام ولكني ربما كنت أكبر منك بخمس أو ست من السنين .
كانت والدتك الطيبة الأنيقة أناقة حرفك هذه الأيام تدس في يدي ريالين وتقول إذهب أنت وهي "أنتِ" إلى البقَال أسفل العمارة واشتر لك ولها حلوى أو أي شيء تريدان
كنت أستنكف أن تمد لي والدتك ثمن ذهابيبك إلى البقَال لأشتري لك الحلوى
هي لم تكن تدرك أن مرافقتك لشراء الحلوى أغلى ثمن وأجمل هدية
لأني سأكون صحبتك وسيكون لدي متسع من الوقت لتأملك عن كثب
كنت ألمح في عينيك يا سارقة التاريخ مدناً من السحر والجمال وكنت أرى في شفتيك الصغيرتين المكتنزتين كل بساتين الورد وحبات التوت ...
كنت أرى في ظفائرك المجدولة أرجوحات من الونس ... وكنت حين أضع يدك في يدي أشعر كأنني أتهيأ للطيران نحو آفاق ما طالها خيال ذلك الطفل الغرير
كنت أنتظر موعد زيارتكم عصر كل يوم بإحساس لم أكن أدرك مداه ولهفة لم أكن أعرف لها تفسير ... كل ما أدركه أن الشوق كان يغالبني في انتظار لحظة قدومكم إلى بيتنا
واليوم يا سيدة التاريخ ... تأتين بعد تلك السنين ، فتفتحين خزائن التاريخ وتخرجين ورقة كنت قد دسستها في يدك يوما وقلت لك حافظي عليها إلى أن يأتي يوم تكبر بنا الأيام فتعود ونستذكر هذا الحاضر المليء بالدهشة والإبهار
وأذكر أنك يا صغيرتي حشرتي تلك الورقة فيصدرك الذي لم يكتنز بعد والذي لم تتشكل في طرفيه رمانتين ... كأشهى ما يكون الرمان
يا أول الزمان وآخره
لم يعد لي بالتاريخ اهتمام ...
فأنا كل لحظة تمضي من عمري بعدك ... لا تاريخ لها حتى أصبحت أيامي كأيام
أعياد اليتامى ... لافرح فيها ولا حتى لهم حق اختيار هدية العيد
فلتكن أيامك أعياد ...
أما أنا فسأظل أنتظر أن يأتي علي يوم بلون فرحة العيد ...
يوم لونه وردي
"البستاني"