.
.
البدر أكبر من أن أترصده بحرف . . . ، فهالاته تحيطني كمجرة أبدو فيها
شيئاً متناهي الصغر . . . ، فقط هي حروف نبتت على أناملي وأنا أرقب إطلالته الأخيرة ،
فتشكلت كلمات إنثالت كما ستُقرأ . . . !
كنت خجِلاً من تقزّم حرفي وأنا أرسمني على صفحة البدر . . . إلى أن أتتني رسالة
جوال من هرم لا أشك في ذائقته ولو للحظة واحدة ... " والله الذي لا إله إلا هو أصابتني
رعشة ، ثم بكيت ، وشتمتك " !
ولأنني أعرف صديقي سيّد الحرف جيداً ، وأعرف كم هي وعرة ذائقته ، قررت أن
أغامر لأوصل حرفي المتواضع لمهندس الكلمة . . . ، إصطدمت بذهنيات تحول بيني وبينه
تختزلني في "معروض" ، أو حاجة من حوائج الدنيا . . . وأنا لاحاجة لي إلا أن تُقرأ كلماتي
على "ضوء البدر" ، وحسب . . . !
* لن أطيل ، آخر ماكتبت ، أول حضور لي بينكم آل "أبعاد" :
(بدر بن عبدالمحسن...حضور في العين ، وغياب في القلب)
(1)
قال : (جيتي من النسيان ومن كل الزمان اللي مضى واللي تغير..تذكر) !
لكنه جاء هو من الذاكرة ، ومن القلب ، ومن كل الزمان الحاضر والماضي وكأن شيئاً لم يتغير ، وكأن لا نسيان يأتي الذاكرة ينقصها من أطرافها..!
خرج إلينا مبللاً برائحة الطين العتيق ، والرياض القديمة ، من "حلم صغير ، وجدار من طين وحصير" ، "وكأن المربع توه اليوم مشيود...جدران طين طمام سقفه جرايد" !
وهبّت نسمة ذكريات شجية ، غارقة في الشجن ، لكنه لم "يتكسر" ، بل تشامخ إلى أن لم تعد للقلوب قدرة على احتوائه ، فخرج إلى الأنظار !
لم يتغيّر ... ، هو هو منذ آخر عهدنا بحضوره كاملاً ... ، فقط بدا أكثر نحولاً ، وبدت نظارته أسمك قليلاً !
حضر كاملاً لآخر مرة في أواخر خريف ٢٠٠٠ ، حيث اكتمل بدراً في عاصمة الثقافة العربية الرياض .
منذ ذلك التاريخ لم يغب ، لكنه لم يحضر كله إلا في دبي ، في مهرجان الشعر العالمي !
عجيب أمر هذا البدر ، بابتعاده يتجلى في القلوب ...، وبحضوره يخرج من القلوب ليكتمل أمام الأنظار ، فلا طاقة لمحبيه على إستيعابه وهو يملأ القلب والبصر معاً !
(2)
ابتعد عن الأنظار ردحاً من الزمن ظناً منه أنه يحتجب ، ولم يدرك أن استئثاره بالقلوب في البعد ، أكثر مشقة عليه وعلى من يحبه من خطفه الأبصار في الحضور !
في إضاءات تركي الدخيل ، خلع عنه جلبابا ممسرحاً كان يرتديه لأنه لا يمثل نفسه !
في إضاءات كان يمثل نفسه وحسب ، فظهر كما يريد.. ، وكما يحب محبوه !
هذا هو البدر ، كلما ازداد علواً ، زاد تقرباً من البساطة ، والتلقائية.. ، وكلما ازداد رفعة ، ازداد تواضعاً !
بدر بن عبدالمحسن ، رغم أن هذا الاسم مجرداً ، بحروفه المموسقة مجد لايضاهيه مجد ، إلا أنه لا يزال يحلم أنه يقف بباب شيء عظيم !!!
أي تواضع هذا الذي يسكنك أيها العظيم ، وأنت الذي طرق بابك المجد لتأخذ بيده ، فسمعك تتباهى غزلاً بالرياض "لو بغيت أخذتها بيدها وسرينا" ، فهام برياضٍ أشغلت البدر عنه ، وراح يغني لها "إنتي مامثلك بهالدنيا بلد...والله مامثلك بهالدنيا بلد"!
(3)
في إضاءات ، وفي أنانية مفرطة استكثرناها منه ، وحينما أحكم قبضته على مقبض باب الوداع ، رمى بـ"جمرة غضى" إلى كفوف امتدت لمصافحته ، ليعلن أنه سيغلق الباب ورائه في درب يفضي إلى عزلة ، وغياب ، وغربة بلا ملامح !
أو ما اكتفيت يابدرنا ؟!
ألم تخبرك عشر عجاف أنك عصي على النسيان ، وأن لا غياب بمقدوره أن يأخذك منّا ؟
حتى وإن كان عذرك أنك ستوغل في الغياب ، لتأتينا بقوت ذائقة اشتد ساعدها على نزف قريحتك العذبة...لن نعذرك !
ففي تاريخك مؤونة تكفينا وأحفادنا وكل من سيأتي بعدنا ، فقط ينقصها ملح حضورك لتكتمل ، طعماً ولوناً ورائحة !
(4)
لا أدري لم كلما تأملت ملامح البدر ، حضر في ذهني النخيل ، بسموقه وشموخه وصموده وصمته وعطائه ، وحزنه أيضاً !
بدر نخلة باسقة ، صمتها بليغ وموحش ، وحديثها بلاغة وعطاء !
تقف بقربها فيأخذك صمت التأمل ، وتأمل الصمت...
تهب الريح فترى تمتمات الجريد إلى نفسها ، وتسمع همساتها إلى بعضها ، فتساقط عليك " بياناً جنياً " ، وحفيف الريح بشحمتي أذنيك يلبسك قشعريرة لن تشعر بها إلا أفي حضرة بدر النخلة ، أو نخلة البدر !
بدر حدث توقف عنده تاريخ ، وانطلق منه تاريخ..
بدر استنطق مشاعرنا ، وجعل حواسنا تتجاوز اللا محسوس..
بدر شق أفواهاً للشبابيك والغيم والنجوم والأنهار ، وكل ما رافق دروب المناجاة ، واستجلاب الإلهام !
لكنه كلما شق عن فمٍ ألجمه ألم ، فانصرف إلى شيء آخر ، لم نمتلك بعد القدرة على التنبؤ به !
(5)
عنّي أنا... ، شكّل البدر جزء عزيز من ذاكرتي ، ورغم أن هذه الذاكرة بدأت تشيخ باكراً ، وكبرت ثقوبها وتسربت منها ملامح ووجوه وأسماء ، وأشياء كثر ، لكن بدراً ليس بالضآلة التي تجعله يعبر أي ثقب فيها مهما كبر ، ولن يُضائله الغياب مهما طال !
لكنني في آخر مرة رأيته يجلس إلى طاولة إضاءات ، داهمني شعور غريب ، أيقظ بداخلي شيئاً دفيناً لا أدري ماهو ؟!
كأنما يكبت صدري ويملأه شجناً ، كذكرى حبيب رحل إلى حيث غياب صامت ...
أو كأنما ينكأ جرحاً حسبته برأ واندمل ؟!
بعد إطراقة استيعاب الزمان ، والإحساس ببوح المكان ، رفعت رأسي قليلاً إلى الأعلى ، وتنهيدة حرّى تزاحم أنفاسي ، وكأني أداري دمعة تراود عيني الفرار....
قبل أن يبدأ الفاصل الأول رأيت البدر يلتفت بقلق إلى الباب ، وكأنه ينتظر شيئاً !
وفعلها ثانية ، في الفاصل الثاني !!
وثالثة أيضاً ... !!!
في آخر الحلقة ، والكاميرا تنسحب بعيداً ، ضحك البدر ضحكة "الخلاص"...ولمع في أعلى يسار الشاشة كنجم يومض ، ثم يخفت قليلاً ، ثم يعاود الوميض إلى أن اختفى تماماً ، وكأنه يودعنا بـ :
" الكوكب اللي تقول الناس ياصغره
من كثر ما هو بعيد وشوفهم قاصر
لا تحسدونه خذا من خبزكم كسره
للجوع وأعطي شباب القلب والناظر
اللي قليله قليل ٍ فاض من كثره
واللي كثيره قليل الجوهر النادر
اصابعه وان حسبتوا كلها عشره
اصابعه وان حسبتوا مالها آخر " !
بعد عشر عجاف عرض لنا البدر مسكوناً بالقلق ، وراغب في العزلة ، و"يحلم" أنه يقف بباب شيء عظيم !
"رأيت خيراً ، وكُفيت شراً " !
أيها البدر...
صبّيت القلق بين جُنوبنا وذهبت ... ، ولسان حالنا "كانها الفرقا طلبتك حاجتين...لاتعلمني ولا تكذب عليّ " !
.