عندما تعجز عن إثبات عقلك ! ! بقلم ندى يزوغ
في صباح خريفي رمادي، قاد يحيى، سائق الحافلة التابعة لمستشفى الأمراض النفسية، مركبته الثقيلة محمّلة بأرواح هشّة، تتمايل صامتة في مقاعدها الخلفية، كأنها ظلال لذواتٍ كانت يومًا ما تعي وتحب وتحلم.
كان في طريقه نحو فرع آخر من المستشفى، وعقارب الساعة تمنحه بعض الدقائق الفائضة عن المهمة. أوقف الحافلة على حافة الطريق، وتسلّل إلى مقهى صغير، باحثًا عن لحظة من الهدوء بين رشفات القهوة، يسرقها من زحام يومه الروتيني.
لكن، حين عاد، كانت الحافلة خالية، كأنما ابتلعها الفراغ. اختفى المرضى كأشباح تلاشت في الهواء.
الذعر التهمه للحظة، ثم نهضت في ذهنه حيلة سريعة، وبلغة العوز الممزوج بالتمثيل، وقف في محطة سيارات الأجرة يعرض خدماته على من مرّ به.
"الأمر بسيط،" قال بصوت متهدّج، "أنا أب لثلاثة أطفال، والحياة لا ترحم. أجرتي أقل، والسفر مضمون."
أقنع ستة ركاب، أعينهم تشي بالحذر، لكن قلوبهم خضعت لفكرة الادخار.
ركبوا معه الحافلة، وراحوا يتبادلون الأحاديث العابرة، بين حلمٍ بشراء خضار طازج، وآخر يبحث عن عمل، وثالث كان ذاهبًا ليحسم قراره في زواج مؤجل. لكن حين توقّف السائق عند المستشفى ليأخذ "أوراقًا نسيها"، كانت الكارثة في الانتظار.
خرج الممرضون فجأة كأنهم جنود في معركة، انقضّوا على الركاب الستة، يقتادونهم بعنفٍ محسوب إلى الداخل، يظنّونهم من المرضى الهاربين.!
الصراخ ملأ المكان، والركّاب يحاولون أن يشرحوا، أن يعترضوا، أن يثبتوا... لكن ما من أحد يسمع من يُفترض أنه مجنون.
قُيّدوا بالأصفاد. نُقلت أجسادهم إلى غرف بيضاء باردة.
الفزع في عيونهم تحوّل إلى صدمة وجودية. بعضهم صمت، وبعضهم ضحك، وبعضهم بدأ يتحدث مع الجدران حتى ينجو من التهميش. كانوا، لوهلة، كمن دخل عالمًا مقلوبًا حيث العقل هو الجريمة، والدفاع عن المنطق هو إعلان جنون.
استمرّ الحجز أسبوعًا. لم يسمع الأطباء قصصهم، بل فسّروها كأوهام نَسَجها الذهان. ولمّا اكتُشف الأمر، خرجوا كما يدخل المرء من الكابوس، لا بكامل جسده، بل بجزء مكسور في روحه.
روى أحدهم، بعد نجاته، قائلاً:
"إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لإنسان عاقل، ليس أن يُظنّ مجنونًا، بل أن يُجبر على إثبات عقله في عالم لا يصدّق إلا الجنون."
ثم صمت، وأكمل بنبرة واهنة:
"هناك لحظات يختلط فيها الصدق بالهذيان، والواقع بالوهم، ولا تعود تدري: هل تحيا في عالم مجنون أم أن الجنون هو أن تحاول فهم العالم؟"
أ لا تعتقدون معي أن المجانين* في هذا العصر،* ليسوا* من يمكثون في المستشفيات، بل أولئك الذين يظنون أنهم وحدهم يملكون العقل. حين تتحوّل السلطة إلى معيار للحقيقة، فيصبح كل اعتراض دليلاً على الاضطراب.
فاحذر، يا من تسير مستقيمًا في دربك، أن تقع في فخ حافلة الجنون. ففي عالم هشّ، قد يصبح إثبات العقل أبلغ صور الجنون.