عدد الأصدقاء في حياتي قليل جداً
أول صديق اتخذته في حياتي جاء في وقت مبكر جداً، قبل أن أستيقظ
كان وجهه أزرق وشعره مقصوص من الخلف
كنت فارغة وقتها، ولم أكن قد عرفت نفسي، أو اكتشفت الحياة من حولي
طلب مني ألاّ أخبر أحداً عن وجوده في حياتي، لكني أخبرت أمي
لأني في ذلك الوقت، لم أخفي عن أمي أي شيء
صديقي الأزرق طلب مني مرة أن ألعب معه لعبة
وضع يديه فوق عيني تماماً، ومسك أنفي بيده
سألني: ماذا ترين؟
قلت: أسود
- لا... لا... ماذا ترين؟
- ولا شيء...!
صديقي الأزرق غضب مني كثيراً ، قال إني مثلهم!
- مثل من؟ سألته
لكنه اختفى ولم يعد أبداً
عندما بكيت وأخبرت أمي لامتني لأني لم أخبره الحقيقة
لأني عندما أغمضت عينيّ رأيت حديقة زرقاء مليئة بورود وردية وحمراء
وأشجار لا تشبه أشجارنا الخضراء، كانت الأشجار ملونة وجميلة
قلت لأمي بأني خفت أن أخبره فيعتقد أني مجنونة وأكذب عليه!
بعد مدة طويلة نسيت صديقي الأزرق
وتعرفت على دب مملوء بالقطن اعتدت على أن أقابله سرّا في دكان أبوبكر
كنت أسرق الحلوى لنفسي، وأدس في يده قطعة شوكولاتة
من تلك التي أشتريها بنقود أمي حتى لا يحترق بالمال الحرام
كان يحب الجلاكسي مثلي، ويشرب علبة بيبسي كاملة
ذات مرة أخبرني عن الفتق في ظهره، وعن غبار الرف الذي يصيبه بنوبة عطس طويلة
ذكرني بالعجوز التي تقطن آخر الشارع والتي لا تتكلم إلا لو أرادت أن تشتكي
كانت تضربنا بعصاها الثقيلة عندما نحاول أن نقطف ثمار المانجا من حديقتها الصغيرة
طلبت من أمي أن تخيط جرحه لكنها رفضت، وطلبت مني أن أكفّ عن إزعاجها بصديقي الجديد
لأنها لن تشتريه من أجلي!
استغربت كثيراً
كانت المرة الأولى التي أكتشف فيها أننا نشتري أصدقاءنا
تأكدت من ذلك عندما ذهبت إلى الدكان لكي أخبر دبي المملوء بالقطن عن فلسفة أمي، ولم أجده
أخبرني أبوبكر فيما بعد، أنه باعه لطفلة لا أطيقها تسكن في حارتنا
كانت المرة الأولى التي أكتشف فيها أننا لا نملك أصدقاءنا!
الشخص الوحيد الذي لم يبعني حتى الآن هو صديقي عبدالله
كبرنا معاً، ودرسنا معاً
كانت مدرسة الأولاد، مدرسة مصعب بن عمير الإبتدائية مجاورة لمدرستنا -نحن البنات- تماما
كل يوم في تمام الساعة السادسة والنصف صباحاً، يأتي "عبّود" إلى بيتي
يفطر معي أحياناً، ثم نمشي إلى المدرسة
في الرابع من يوليو عام 1992، أصبح عمره 9 سنوات
اشترى له أبي دراجة هوائية حمراء، واشترى لي مجلة ماجد
في الخامس من يوليو من ذات العام، عرض عليّ أن يقلّني كل يوم من وإلى المدرسة بدراجته الحمراء
ثم قرأنا مجلة ماجد معاً
عندما صار في الحادية عشرة من عمره اختفى أبوه المزواج من المنزل
اعتقد الجميع بأنه هرب لكي يتزوج من فتاة جديدة لكنه أبوه لم يعد ولم يتصل بهم
ولأنه الولد الوحيد بين أخواته الأربعة، أضطر للعمل في "شيشة" بترول قريبة من بيتنا
تلك السنة رسب عبود في الصف السادس
كنت وقتها في الصف الخامس، لذلك عندما عاد السنة أصبحت أساعده في حل كل واجباته
لكنه كان يتغيب كثيراً، لذلك كان يرسب في الامتحانات الفصلية
وعاد السنة مرة أخرى
عندما رسب تلك السنة أيضاً، اضطر لترك المدرسة والتفرغ بشكل كامل للعمل
بعد خمس سنوات من غيابه، عاد أبوه فجأة
لم يبرر غيابه الغريب لأحد لكنه أجبر عبود على الالتحاق بالجيش
يومها فرغت كل أحلامه وكان حزيناً جداً
جاء إلى بيتنا وأخبرني بأن حلمه لأن يصبح مهندس كمبيوتر انتهى للأبد
كنت وقتها في المرحلة الإعدادية وكان في السادسة عشرة من عمره
بعد فترة، انحرف عبود وصار عربيداً وتغيرت أخلاقه كثيراً
أصبح يضايق الفتيات ويشرب الخمر، وصار وقحاً مع الجميع
ذات مرة كنت عائدة من المدرسة، وكان ينتظرني أمام موقف الحافلة
لاحظت أنه لم يكن طبيعياً، كانت رائحته مقرفة
كان يمشي معي بهدوء لم يتكلم، لم يقل أي شيء أبداً
عندما وصلنا للمنزل، ورأته أمي قالت: لا أريدك أن تختلط مع ابنتي أبداً بعد اليوم!
أخفض عبود رأسه وخرج من المنزل
لم أفهم ما حدث، لكني لم أناقش أمي لأني أعرف أنها تحبه كثيراً، تحبه كأنه ابن لها وأخ لنا
بعدها بفترة بسيطة لم تتجاوز الشهرين أو الثلاثة
انتقلنا من منزلنا، ولم أر عبود أو أسمع عنه إلا بعد مرور خمس سنوات تقريباً على آخر لقاء بيننا
كان لقاؤنا جميلاً
وكان شاباً، عاد إلى رشده الحمدلله، لكنه أدمن التدخين، أدمنه بشدة
تجددت علاقتي فيه وصرنا نتحدث بشكل شبه يومي عن كل شيء
ولأن أمي رفضت صداقتنا، رغم إنها فرحت كثيراً لتغيره الجيد، أخفيته عنها
الآن
صارعمر عبود، عبدالله، 29 عاماً، وصار أباً لطفلة وولد جميلين جداً
ورغم إن صداقتنا لم تعد متينة كما كانت
إلا أنها عميقة جداً، وخالية من كل الشوائب التي قد تحرقها