الشعر بحر عظيم عميق، وواحات غناء شاسعة مترامية الأطراف نتفيأ أشجارها..
ونقطف من ثمارها ما لذ وطاب.. حسنه حسن وقبيحه قبيح. فن قائم بحد ذاته، وتجربة
إنسانية وحسية منذ أقدم العصور وعلى مر الأزمان. متشعب تعريفه وصعب تحديده في
مفهوم أو اصطلاحات معينة.. ومن ناحيتي أقول: رؤية لموجات داخلية تنبع من الشعور
واللا شعور لرؤيا الشاعر الداخلية يجسدها الشاعر بلغته المجازية والخيالية والإبداعية..
ويحمل إيقاعا وجرسا موسيقيا.
فلكل شاعر محطات شعرية تختص به وتميزه عن غيره،ولكل محطة رؤى وسمات
فنيةتنضج بقدر اهتمام الشاعر بعمله الفني وتجسيده لتلك التجربة بوعي وحدس
يفصله عن حدود الدوائر المتقاربة والمتباعدة عن محيطةالشعري؛ إذ تعتبر التجربة
الذاتية لكل شاعر منطلقا له نحو أفق رحب يجسد ما يمور بداخله من مشاعر، ويدور في
ذاته من انفعالات.. يعبر عن معاناته في هذه الحياة ويعبُر بأحاسيسه للشط الآخر حيث
النبض ومسارب الضوء. كذلك من جهة أخرى يجب على الشاعر أن يشارك المجتمع
ويعبر عن همومهم ورؤاهم.. ويعكس تفاصيل الحدث والحديث من خلال نصوصه، ويشكل
بريشته الذاتية معاناة الآخرين ومتطلباتهم.. أي أنه يعبر عما يختلج في ذاته وينبلج في
ذات المجتمع. وإيمانا بأن في كل شاعر ناقدا هناك محطات يتوقف عندها أغلب الشعراء،
وأولها محطة التكوين والتأسيس.. وكبدايات أي شاعر في هذه المحطة البحث عن الذات
وترجمة ما ينسكب من العالم الخارجي على أرض المشاعر ويناسب على مساحات
الأحاسيس.. فالشاعر يؤثر ويتأثر، تتبلور في ذاته ملامح المحطة الثانية التي أعتبرها
الذات الناطقة بصورة أكثر دقة وأعقد تفاصيل من حيث الغوص في المشهد الشعري
وتتبع الإيماءات والحركات والسكنات للصورة الشعرية، وهي مرحلة تحمل خصوصية
الطرح وتتبع الفكرة، برؤى مكتنزة بالثقافة العميقة القادرة على استنباط الدلالات
المعرفية واستكشاف ما خلف الوعي بحدس متمكن يدرك أن للنص فصلا خامسا يجب
أن تفجره جداول وحقول وبساتين تتفيأ ظلالها أجمل المعاني وأرق العبارات..
بخطى ثابتة وبأدوات فنية باهرة ماهرة، وبرقي طرحها وما يحمله من إبداع
وسمو بالذائقة عموما. وتعتبر عناصر النص الأساسية (الفكرة والعاطفة واللغة والخيال
والأسلوب والإيقاع).. يمزجها كعناصر فاعلة في بناء النص الشعري.. بحيث يكون أمام
نص يرسم الذات بالرؤية التي تستنطق ما خلف الواقع التقريري الصامت.. ويتلمس روح
وأنفاس المعنى بصورة ترتكز على الإيحاء الجميل الذي لا يدخل المتلقي في بؤرة
الغموض، وهي بالطبع عملية معقدة التركيب متناغمة الأسلوب وتعبر عن الدقة والرقة
من الضوابط التي تضمن نجاحها وتميزها.. حيث الربط بين هذه العناصر برؤى واضحة
ودلالات تعبيرية ومضامين مدهشة.. ومفردات منتقاة وبطريقة منعشة وألفاظ ساقطة
على المعنى، ومعنى يرتقي بالألفاظ. ويأتي اللفظ هنا من حيث استخدام الألفاظ السهلة
الواضحة البعيدة كل البُعد عن التعقيد والتراكيب الغريبة.. بعيدة عن الغموض الذي يقتل
الفكرة ويشتت المتلقي، يؤطرها أسلوب صادق وحس ناطق.. ومشاعر فياضة وعاطفة
أضرمتها الأحاسيس متأججة الفكرة، تتضح بها شخصية الشاعر وتميزه عن غيره
بترتيبها وتسلسلها من حيث الإبداع والإمتاع والمفردات والأخيلة والأسلوب المتجسد
بالصور الخيالية والمحسنات البديعية التي تحرك المتلقي وتأسر روحه وتضمد جروحه
وتروي عواطفه وتشبع نهم ذائقته.. فهي تحمل ذلك النهج الأدبي المتكامل (رؤية وبناء)،
وهي قادرة على رسم أحاسيسه ومشاعره بصورة رائعة، كما أن الإبداع وقوة الطرح
وتناغم الأسلوب وشفافيته هو ما يملي على المتلقي والمتذوق أن يبحث عن نصوص
هذا الشاعر ويتتبع أثره. ولفوضى الحواس في النص الشعري والأدبي عموما حزم من
نور تشتت المتلقي وتثلب الفكرة، فتجد هذه الحزم هنا وهناك صعبا تجميعها ومعقدا
تركيبها. وتعتبر اللغة القطب الأساس الذي تتحرك في فلكه النصوص الأدبية، كل حسب
تركيباته اللغوية ومفرداته اللفظية، وهي الوعاء الذي يحمل مشاعره وأحاسيسه
وانفعالاته، كما أن لكل شاعر لغته الخاصة التي يصهر فيها انفعالاته ورؤاه والتي تنبثق
منها سيمياء اللغة واشتقاقاتها والرموز والإيحاءات عبر سياق معرفي وتعبير إبداعي
متجدد وأسس تؤطر الفكرة وتتناغم مع اللغة. أما الذي يدور في فلك غيره لغة وأسلوبا
وفكرة.. مآله للسقوط والوقوع في مقبرة النسيان؛ فهو يقتل الذات المبدعة في داخله..
ويصادر الأحاسيس المفعمة بالصدق والمشاعر المتسمة بالعطاء، فالثقة بالذات هي
منبع الإبداع المتدفق.. ومصدر النبوغ والتصدر ومنهل العذوبة والتجدد.. فلا نجاح ولا رقي
بتتبع خطى الغير ومحاكاتهم وتطابق أفكاره مع أفكارهم.. فالتقليد انهزام واستسلام،
والتميز والتفرد نبوغ وانتصار.. فيجب أن يكون لكل شاعر طريقته ومنهاجه الذي يختص به
عن غيره فكرة وأسلوبا وأخيلة.. تاركا للقارئ فضاء جماليا مفتوحا ليقرأه من خلال
أطروحاته ويستنير بأفكاره.. التي تنأى بالشاعر عن السطحية والتقريرية المملة
والمباشرة والارتكاز على الغموض والسريالية بصورة بحتة.. فالشاعر الناجح هو الذي
يترك للمتذوق مجالا ومفاتيح لسبر أغوار النص.. وبوعي فكري فلسفي تشبع نهم
المتلقي فتنقله إلى إرهاصات الحلم ومنارات الأمل وغياهب الألم.. بتراكيب لغوية ودلالة
معنوية أخاذة وبوحدة عضوية متكاملة، وأن يكون اسم النص نابعا من فكرته الأصلية
ويختار اسما معبرا ومؤثرا بالقارئ، وأن تكون بنية النص موجزة للفكرة التي تختلج في
نفسية الشاعر مختارا مفرداته وألفاظه بكل دقة ورِقّة.. ليصل إلى معاني تثير الدهشة
في نفسية المتلقي.. ويبتعد عن حشو الألفاظ التي لا تضفي جديدا أو تأثيرا في سياق
النص.. ويحسن الربط بين العبارات لإثارة عاطفة المتلقي ويشده لها.
ويأتي بعد ذلك دور والمحور الرئيسي للنص.. وذلك بالوصول لعمق الفكرة من حيث البدء
بتفاصيل أدق.. يوضح من خلالها معاناته وانطباعاته المتموجة في ذاته.. ومتدرجا بحرارة
الموقف من حيث العبارات والحركات الداخلية للجمل.. وذلك بأسلوب التشويق والجذب
والوصف، حاشدا الصور المبتكرة والأخيلة الجميلة المتناصة مع المشهد العام للنص..
ومن ثم يأتي دور الخاتمة التي يفرز بها خلاصة الفكرة ونهايتها المرسومة.. بحيث يكون
ذلك متسلسلاً ومتزامناً مع لُبّ الفكرة، واضعا انطباعاته الأخيرة ورؤاه من خلال تجربته
الإبداعية بترك طابع حسن عن أسلوبه وطريقة عرضه.