منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - السرير» للضرورة الشعرية!
عرض مشاركة واحدة
قديم 12-31-2006, 05:51 PM   #1
سعيد الدوسري
( كاتب )

افتراضي السرير» للضرورة الشعرية!


http://www.almarefah.com/article.php?id=1366
رابط الموضوع في مجلة المعرفة

السرير» للضرورة الشعرية!


سعيد الدوسري - الرياض

على الرغم من أنني أحمل شهادة البكالوريوس في اللغة العربية من جامعة عريقة بتقدير ــ عفا الله عما سلف ــ إلا أنني عجزت (حتى تاريخ كتابة هذه الثرثرة) عن كتابة قصيدة واحدة، حتى ولو كانت من النوع الذي لا يسهر الخلق جرّاها ولا يختصمون. ولا أخفيكم أنني قد حاولت عدة محاولات بدأتها من أيام الثانوية. فقد أرقت ذات ليلة جراء شربي براد شاي (أبو أربع) فاغتنمت الوقت في كتابة قصيدة عصماء معارضًا المنخل اليشكري في قصيدته التي أحبها كثيرًا لأنه ذكر فيها (النياق والأباعر) التي رعيتها صغيرًا، ومنها قوله:
وأحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
وقد ظننت أن الخلق سيسهرون جراها ويختصمون. وفي الصباح ذهبت مزهوًا كديك بلدي أحمر إلى المدرسة، أحمل قصيدتي لأعرضها على معلم مادة التعبير (مصري الجنسية) الذي كان يشجع المبدعين ويحتفي بهم. قرأ القصيدة بصوت مرتفع:
حبك في قلبي كبير
وأنا أنام على السرير
وأفكر فيك في كل وقت
على الغداء، وعلى الفطور
وبسبب حبك قد رسبت
حتى في مادة التعبير
أخذ يقرأ القصيدة، بينما كنت أتطلع إلى تعبيرات وجهه، وأهز رأسي طربًا. وبعد أن انتهى قلت له بلهفة: هاه يا أستاذ.. ما رأيك؟
فقال لي: هل عرضتها على أحد قبلي؟
فقلت: لا.
قال: إذًا لا ترها أحدًا!
لوهلة: ظننت أنه خشي أن ****ها أحد الأدباء، وينشرها في إحدى الصحف مذيلة باسمه!
فقلت له: ولكن لماذا يا أستاذ؟!
فقال: لأن المحب الحقيقي ــ يا فالح ــ لا ينام على السرير، والمحب الحقيقي ــ يا فالح ــ لا يشتهي الطعام حتى تنحل عظامه، وأما ما يخص مادة التعبير فاعتبر نفسك راسبًا منذ هذه اللحظة!
شكرت المعلم، وبودي لو أخنقه لأن النقد كما يعلم الجميع أمرُّ على النفس من العلقم، ولكني فكرت في حالي بعد أن خلوت بنفسي فاكتشفت أنني لا تنطبق عليّ صفات المحب الحقيقي، وذلك لسبب بسيط، وهو أنني كنت أول من يجلس على سفرة الأكل وآخر من يقوم عنها، وأما السهر فكنت أتمنى من كل قلبي أن أسهر حتى أشاهد المصارعة الحرة بتعليق إبراهيم الراشد رحمه الله، ورغم حرصي الشديد إلا أنني كنت أنام قبل موعدها، علمًا بأنها كانت تعرض في التاسعة مساء! وأما السرير الذي ذكرته في القصيدة فقد كان للضرورة الشعرية لا غير، ولكن للأمانة التاريخية فلم أمتلك سريرًا خاصًا إلا بعد أن تزوجت!
كانت هذه المعلّقة أول وآخر قصيدة أكتبها، ولكني ما زلت أعتقد حتى الآن أن ذلك المعلم قد حرمك شخصيًا، وحرم العالم من شاعر مغوار لا يشق له غبار، وهو شخصي المتواضع بالطبع. وبقيت فترة طويلة أتمثل بقول المتنبي:
عليّ نحتُ القوافي من معادنها
وما عليّ إذا لم تفهم البقرُ
فيما بعد علمت أن الصنعة لا تخلق شاعرًا، وأن العبقرية في الشعراء أمر نادر حقًا. وأن الناقد القادر على التذوق الحقيقي أمر نادر جدًا، فطابت نفسي قليلاً، وقررت أن أصبح ناقدًا، لأنتقم لكرامتي من كل من تسول له نفسه أن يصبح شاعرًا!
ولن أكتم سرًا، فقد بدأت بعد تلك الحادثة أحسد الموهوبين، مثل الشعراء والرسامين والمكتشفين الذين ولدوا بمواهب فطرية لا يحتاجون معها لا إلى دراسة، ولا امتحانات، ولا تعب، ولا هم يحزنون.
ومما لا يزال لاصقًا بذاكرتي حتى الآن، أنني شعرت بحسد شديد «لنيوتن» حين علمت أنه كان نائمًا يحلم، ويشخر تحت شجرة تفاح، ثم فجأة.. سقطت عليه تفاحة ناضجة، فأخذها ومسحها بكمه المتسخة أصلاً، ثم أكلها فاكتشف قانون الجاذبية (التجاذب)، وتمنيت من كل قلبي حينها أنه كان نائمًا تحت شجرة جوز هند، فتسقط عليه جوزة هند ضخمة كالتي تظهر في إعلان شوكولاتة (باونتي) فيصاب بارتجاج في المخ، يلازمه طوال حياته، ويبقى قانون الجاذبية دون اكتشاف حتى اكتشفه بعد أن سقطت ذات يوم من أعلى قمة نخلة (خلاص) باسقة في مزرعتنا!
وللمعلومية فإن ما اكتشفه (نيوتن) بالضبط هو: أن الكتل تتجاذب مع بعضها بقوة متبادلة، وهذه القوة تتناسب طرديًا مع كتل الأجسام. ومعنى ذلك أن التفاحة تجذب الكرة الأرضية كما تجذب الكرة الأرضية التفاحة، ولأن الثقل في صالح الكرة الأرضية فنشاهد التفاحة تسقط نحو الأرض لأنها ذات ثقل أكبر، ولذلك فتسمية هذه النظرية بنظرية (التجاذب) أفضل من تسميتها (الجاذبية)، وهذا ما لم يوضحه لنا معلمو العلوم في ذلك الوقت.
شعرت بالحسد أيضًا حين قرأت أن (شامبليون) استطاع خلال خمس عشرة سنة، أن يفك لغز حجر رشيد في ليلة ليلاء، ولو لم يسبقني إلى ذلك لقمت بفك طلاسم اللغة «الهيروغليفية» في ساعات معدودة، وأكبر دليل على قدرتي على ذلك أنني أستطيع قراءة خطوط طلابي التي لا أعتقد أنها تنتمي إلى أي لغة من اللغات الحية أو حتى اللغات التي شبعت موتًا!
كما شعرت بالحسد حين قرأت أن (أرخميدس) اكتشف قانون الطفو والوزن النوعي وهو مستلق في (بانيو) الحمام الدافئ، وخرج يصرخ عاريًا: «يوريكا.. يوريكا». وهو اسم خادمته، ولكنها تترجم بمعنى: وجدتها.. وجدتها، وتمنيت حينها لو أن الشرطة أو الهيئة أو مكافحة التستر ألقت القبض عليه بحجة إفساد الذوق العام وإيواء عمالة غير نظامية، وأودعته في مصحة للمجانين، لأنني على يقين أنني حتمًا كنت سأصل بسهولة إلى هذا الاكتشاف، ليس في «البانيو» بالطبع (لأنني لم أجربه حتى اليوم) ولكن في أثناء ممارستي السباحة في البرك (جمع بركة) والقلبان (جمع قليب) المالحة في مزارع قريتنا.
لا أدري لماذا أعتقد أحيانًا أن «بيتهوفن» المسكين لم يصبه الصمم إلا بسبب حسدي له وربما غيري أيضًا على سمفونياته الرائعة التي ألف التاسعة منها (والتي تم اعتماد إحدى مقطوعاتها في النشيد الوطني للاتحاد الأوروبي) وهو أصم تمامًا، أي أنه كان يتخيل الموسيقى في ذهنه ثم يكتبها على الورق!
وبمناسبة الحديث عن الصمم، فقد عملت في معهد الأمل للصم عدة سنوات، اكتشفت خلالها أن كثيرًا من الصم موهوبون في مجال ما، وكان من بينهم طلاب متميزون في الرسم، أو الخط، أو الحاسب الآلي، بل إن أحدهم كان شاعرًا، ويكتب قصائد رائعة بالعامية والفصحى، وله مقالات منشورة في الصحف! أعتقد أن السبب وراء نجاح كثير من طلابي الصم هو أنهم لا يستمعون إلى كلام المحبطين والمخذلين والسلبيين.
أنا عادة.. أتأثر بآراء الآخرين حولي، ولذلك ربما تعلمت درسًا من الإحباطات التي سمعتها يومًا من معلم، أو زميل، أو قريب، وأعتقد أنني أحاول قدر الإمكان أن أجنب طلابي هذه الإحباطات، وأستغل أي فرصة لأشجع مواهبهم التي إن كانت أقل من المستوى المطلوب فهي بلاشك مناسبة لمرحلتهم العمرية. كما أحرص دائمًا على أن أروي لهم في أوقات الفراغ القصة التي تقول: اتفق مجموعة من الضفادع على إقامة سباق تسلق لإحدى البنايات. وفي اليوم الموعود انطلق الضفادع يتسلقون المبنى، وكل من شاهدهم أخذ يصرخ: لن تستطيعوا الصعود.. ستسقطون وتموتون، ونتيجة لكلام الناس دب الضعف والوهن في قلوب الضفادع وأجسادهم، وسقطوا جميعًا، وتوقفوا عن إكمال السباق، عدا ضفدع واحد استمر في الصعود حتى وصل إلى القمة.
وبعد نزوله جاؤوا يسألونه ليعرفوا سر صموده. ويا لهول المفاجأة حين اكتشفوا أن الضفدع الفائز كان مصابًا بالصمم التام، وهذا هو سبب فوزه، لأنه بكل بساطة لم يكن يسمع ما كان يقوله الآخرون!



salam2602@hotmail.com

 

سعيد الدوسري غير متصل   رد مع اقتباس