15
بكره العيد بنعيد
نذبح بقرات سعيد !!
بهذه الأهزوجة كنا نحتفل بالعيد قبل أن يهل هلاله ، هكذا كنا نتغنى في الصغر بمقدم العيد ، نرحب به على طريقتنا الطفولية ، ننتظره بشغف فقط كي نلبس الجديد !! ونجمع الريالات من أقاربنا ..
قبل العيد بأسبوع أو يزيد ، يتزاحم أفراد الأسرة في صندوق الهايلوكس ، قاصدين السوق ، يطلبون كل جديد من ثياب وأحذية وشمغ وملابس ، وغالبا ما يحاول الأب التوفير على نفسه ، حتى يستطيع أن يدخل الفرحة لنفوس أطفاله ...
فيختصر بعض المسافات .. وصولا للهدف الرئيسي وهو ادخال السرور في نفوس الأبناء ، فيتم شراء الثياب من محلات الخياطة .. من تلك الثياب التي ليست لأحد ، يخيطها الخياط خبط عشواء ، مقاسات عشوائية ، وأقمشة رخيصة ، فنشتريها كي تدخل السعادة في نفوسنا !!
ومن ثم يتم اختصار اللباس ، فالصغار ليس بالضرورة أن يلبسوا أشمغة ، فيكفيهم [ الطاقية ] خاصة إن كانت من تلك المنقوشة بدوائر ذهبية صغيرة !!
والشمغ لا نعرف إلا شماغ [ العقل ] ... وهي توضع على الرأس الذي يقال أنه محل العقل ، وليس فيها من العقل شيئا !!
ونترقب العيد ، كأنما نترقب ضيفا عزيزا ، نحبه جميعا ، فكثيرا ما سألنا : متى يجي العيد ؟ خاصة إذا سالناهم متى نلبس ثيابنا الجديدة ، ومتى يعطونا ريالاتهم الموعودة ... فتكون الإجابة إذا جاء العيد !! وتحتفل القرية بالعيد قبل مقدمه ، فتلبس البيوت حلة جديدة بصبغ جدرانها ، وتغيير فرشها وأثاثها ، وكأن بيوتنا تشاركنا الفرحة بالعيد ، كأنها تخاطبنا تطلب أن نهيئها لهذا الضيف لتفرح به كما نفرح ، وتسعد به كما نسعد !!
ويتم الإعلان عن العيد ؟ فتنطلق الطلقات النارية ابتهاجا وفرحا بالعيد ، فتنطلق معها الألعاب النارية... هنا وهناك .. وخاصة بالأسلوب القديم [ بلف الكفر والبارود ]
وفي ليلة العيد نضع ملابسنا عند رؤوسنا ، بعد أن نغتسل اغتسالا نزهو به أمام العيد ، ونبدأ نطلب النوم ، فتغطي فرحة لقائنا بالعيد على لذة النوم ، فنسهر نقلب رؤوسنا وأحلامنا وأفراحنا وطرق استقبالنا لهذا الضيف الجميل ، ونترقب العيد ، ونسأل بعد كل ساعة متى يجي العيد ؟ ويؤذن للفجر ، فنظنه العيد ، قالوا : أولا نصلي الفجر ثم نعود ، ونفعل ونسأل عن العيد ، فيبدأ الجميع بلبس الثياب والمشالح والشمغ ، وتعج رائحة البخور في أرجاء المنزل ، وينتشر شذى كل عطر في أركان البيت ، وأرى أمي تستعد للذهاب معنا لصلاة العيد ، فأسأل لماذا تذهب النساء لصلاة العيد !!
نخرج من بيتنا ونحن نرسم صورة جميلة لهذا العيد ، نصل إلى مصلى العيد وقد كان سابقا في الوادي ... فنجد الناس قد لبسوا الجديد ، وجلسوا يهللون ويكبرون ، ما أجمل أصواتهم وأعذبها وهي تتعالى [ الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ] [ الله أكبر عدد ما صام صائم وأفطر ، الله أكبر عدد ما أورق عود وأزهر ، الله أكبر عدد ما حج حاج ولبى وكبر ] كان لها وقع جميل في النفس ، وأثر رائع في القلب ، أجواء تمتلئ بالروحانية ، ومشهد يشهد لله بالوحدانية ، كأنما لبس كل إنسان ، إيمانا جديدا بمجرد لبسه لثوب جديد ، ويستمر التهليل والتكبير ، حتى يأتي الإمام فيأمر المسلمين بالإستعانة ويبدأ الصلاة !!
كانت صلاة العيد بتكبيراتها مختلفة عن كل صلواتنا التي عرفناها من قبل ، فها نحن نصلي بلا أذان ، وبدون إقامة ، نصلي في مكان مكشوف ، خارج العمران ، ونصلي بملابسنا الجديدة بروائح البخور ، وشذى العطور !!
ثم تبدأ الخطبة ، فيهز الخطيب المفوه قلب كل مسلم ، ويحرك مشاعر كل عاص ، ويلين عواطف كل قاس ، يزيل بخطبته كل ضغينة ، ويبعد بفصاحته كل حقد ، ويؤلف بكلام الله القلوب المتباغضة ، ويجمع بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم شمل كل أسرة تفرقت بنزغات شياطين الإنس والجن !!
فبعد أن ينتهي من الخطبة .. يظهر التآلف ، فيتعانق الجميع عناق محبة وإخاء ، عناق يملأهم طمأنينة ، ويظهر فيهم متانة البنيان المرصوص ، وقوة الاعتصام بحبل الله ، في المصلى يعايد المسلمون بعضهم ، في مشهد مليء بالحب والإخاء والتراحم والتواصل والتعاطف ، بعد ذلك ينطلق الجميع ، وتنطلق معهم الطلقات النارية فرحا وابتهاجا بالعيد !!
وفي القرية يجتمع الرجل وأبناؤه ... فيخرجون مشيا على الأقدام يتقدمهم الأب بمشلحه وباكورته ... يطرقون كل باب ، يسلمون على أهله ويقدمون لهم التهاني بالعيد [ من العايدين ، من الفايزين ] ، يشربون قهوتهم ويلتقطون بعض حبات تمرهم .. والحلوى إن وجدت ... وهكذا يفعل كل أهل القرية ... من بيت إلى بيت .. حتى ينتهوا من أداء واجبهم ... من الساعة الحادية عشر .. يبدأ أكل المكرمات ... حيث يولم في كل بيت وليمة ، ويحاول كل صاحب دار ... أن يجمع أكبر قدر ممكن من أهل القرية على وليمته ، فيقف على باب الدار ينادي الصغار والكبار ، الرجال والنساء ، [ هيا سموا في عيدنا ]
وفي المساء تخرج النسوة يتبادلن التهاني والمعايدة ، ويفعلن كما فعل الرجال في الصباح من زيارات وتهاني وتبريكات بهذا العيد السعيد ، أما الأطفال فيلهيهم الاستمتاع بفرح العيد عن السلام أو تقديم التهاني ، فقط يرتادون البقالة من أجل الحلوى ، ويجتمعون من أجل الطراطيع ! فما أن تمر ساعة حتى يعانق الوسخ ثيابهم ، وتتوسدها بقايا العصير والحلوى !!
ويحتفل الرجال في المساء بالعيد بالعرضة ـ ودق الدفوف ، فيقيمون الاحتفال ابتهاجا بهذا العيد ، وقد كانت في السابق تقام هذه الاحتفالات في كل قرية ، أما اليوم فتتم بتنظيم رسمي في المحافظة .. حيث يقام الاحتفال مرتين في اليومين التاليين ليوم العيد بحضور المحافظ ورؤساء الدوائر الحكومية !!
اليوم يجيء العيد ، فلم نعد نشعر بفرحته التي كنا نشعرها في طفولتنا ، ذلك أن الموازين تغيرت ، والأحوال تبدلت ، فعيدنا اليوم في رسالة بجوال ، أو تهنئة بهاتف ، ونستبق المواعيد حتى نقتل فرحتنا بالعيد فكثيرا ما وصلتنا الرسائل تهنئنا بالعيد ... قبل أن يأتي العيد وكأنهم يقتلون فينا فرحة العيد قبل العيد !! وتبدل موعده فكان في السابق في النهار ، فصار في الليل ، وكان في البيوت ، فصار في الميادين والمنتزهات ، وكانت العرضة فصارت الرقصات والأغاني ، وكان التواصل والتراحم بين الأهل والأقارب ، فصار العيد خارج البلاد في مدن الترفيه وملاهي المجون !!
كانت هذه الأخيرة في هذه الحلقات المتصلة المنفصلة . .. فشكرا تملأ ما بين المشرق والمغرب لكل من مر من هنا قارئا أو مشاركا أو مستمتعا ... وكل عام وأنتم بخـــــــير !!