3
كنت قد عدت اليوم لحنين الذكريات ، قد هب علي عبق من طهر الماضي وصفائه ،(كتبت هذه الذكريات قبل عامين ) اليوم تناولت الإفطار مع الوالد والوالدة في القرية ، لم يتغير شيء ، لا زالت نفس الطقوس ، ونفس الأساليب ، لكن الحضارة قد امتدت للقرية لجمالها ، لهدوئها ، ولصفائها ، سفرة الإفطار تحتوي على نفس الأصناف تقريبا ، إلا أنها زادت بأشكال متنوعة من المعجنات والمحشيات ، وكثر الحلا .. فما عادت المهلبية هي الحلو الوحيد على السفرة ... بالأمس كان الذي يعد السفرة هم الأبناء والبنات ، اليوم الذي أعد السفرة الخادمة ، تلك التي تقوم على خدمة الوالد والوالدة بعد أن أجبرتنا الأعمال والدراسة الابتعاد عن القرية وأهلها .
اليوم لم ينس والدي وهو يسير إلى الخامسة والثمانين من عمره - حفظه الله وأطال في عمره - لم ينس التصريفة السابقة التي كان يصرفني بها ، لكنه اليوم أجراها على أبنائي [ تركي 6 سنوات ، ومحمد 4 سنوات ] لكنهم لم يصعدوا سطح منزل ، ولم يبلغوا سفح جبل ، ذلك أن مسجد قريتنا يلجلج به الأذان فيرتد لنا صداه عبر مكبرات الصوت ، فلم تفلح خطة أبي التصريفية .
سأعود للحديث عن وجبة الإفطار في الماضي ، وأعتذر عن هذا الاستطراد الذي جاء عرضا .. بعد تناول الإفطار الأول ، يخرج الأب وجميع الأبناء لأداء صلاة المغرب ، وترى الناس أفواجا يخرجون من بيوتهم في اتجاه المسجد ، يأتون فرادى وجماعات ، يؤدون الصلاة في هدوء وسكينة ، ثم يعودون للمنزل لإكمال الإفطار ...
الإفطار في السفرة الثانية عادة يتكون من [ الشوربة ، والمكرونة ، والشعرية ] وخبز التنور .. قبل التلفاز ، كان المذياع هو الوسيلة الوحيدة الإعلامية الموجودة عند أهل القرية ، كان برنامج [ أم حديجان ] الذي يقدم في ليالي رمضان هو البرنامج الذي يستحوذ على اهتمام الناس وخاصة كبار السن وما أكثر الضحكات التي يحدثها مقدم البرنامج في نفوسهم ، وهو في ذلك الزمان يعادل [ طاش ما طاش اليوم ] ، وبعد فترة جاء التلفاز ويتم تشغيله في المساء فقط ، فلم تصل بعد الكهرباء للقرية ، ويعتمد الناس بعد الفوانيس على مولدات الكهرباء التي تعمل من المغرب إلى الساعة الحادية عشر مساء ... بعد أن تم إيصال الكهرباء لأغلب بيوت القرية ، ومن المصادفة العجيبة أن وصول الكهرباء لمنازل قريتنا كان في شهر رمضان المبارك عام 1404 هـ !! - بدأ الناس يمدون فترات السهر ومتابعة التلفاز إلى ما بعد الثانية عشر ليلا ، واليوم لا بد لكي تسهر ليل رمضان الا تنام إلا بعد الفجر !!
فدخل التلفاز المنازل وبدأ الناس يتابعون برامج ما بعد الإفطار ، كان حديث الإفطار للشيخ علي الطنطاوي ، هو أول برامج ما بعد الإفطار ، لكنه كان ثقيلا على النفس ، لا تقبله ولا تقبل عليه ، خاصة نحن الأطفال ، ننتظر الكاميرا الخفية وبعض برامج التسلية ، ونتأفف من برنامج الشيخ رحمه الله ، وبعد أن قرأت كتب الشيخ واطلعت على فكره ، تمنيت لو تعود بي الأيام إلى الوراء ، وأعاهد الشيخ أن أتابع كل برامجه مستمتعا بكل ما فيها ، دون تأفف أو تذمر ، لكن للأسف لن تعود !
إن تحدث رحمه الله عن الفكر امتعنا بفكره ، وإن طرق مجال الأدب أخذنا لحدائقه الغناء ، وجداوله الرقراقة ، يتحدث فكرا وأدبا وطرفة حديثا لو عرفنا قيمته في الماضي ما مللناه !!
بعد تناول طعام الإفطار يبدأ الأب والأبناء الاستعداد لصلاة العشاء والتراويح ...
يتبع