2
بعد أن ابتلت العروق ، وذهب الظمأ ، وثبت الأجر إن شاء الله ، بعد إفطار الظهر المشهور ، قضيت بقية اليوم أحوم حول الحمى ، أوشك أن أتذوق الشوربة ، أو المكرونة ، لكن لا شيء يغريني أبدا مثل المهلبية .
عندما تتهادى الشمس للمغيب ، يبدأ الصائمون من أهل القرية ، التوافد على بيوتهم ، وتنطلق روائح الأطعمة من كل بيوت القرية ، حالة استنفار في المطابخ من بعد الظهر إلى أذان المغرب ، كان للقيمات رائحة مختلفة تعمد إلى إثارة إنزيمات المعدة بالاستشعار عن بعد !!
يبدأ الجميع في إعداد السفرة الرمضانية ، التمر هو الوجبة الرئيسية في المائدة الأولى ، ومعه القهوة العربية الأصيلة ، وعصير التوت الأحمر ، الذي يغرينا بحمرته التي يحدثها على الألسن والشفاة ، فنشربه فقط كي نتضاحك على بعض من هذه الحمرة التي تثير الدهشة ، وهناك مشروب خاص ربما لا يعرفه البعض ، وهو [ المريسة ] والمريسة لمن لا يعرفها هي تمر منقوع في الماء ، يهرس هرسا ثم يصفى وبعد ذلك يعصر عليه الليمون ويقدم باردا ،، هو باختصار عصير تمر وليمون ، له نكهة خاصة محببة عند الجميع وخاصة كبار السن ... ولا يستلذ أحدهم بإفطار يخلو من [ مريسة ] ، وتفننوا فيما بعد في هذا الموروث فخلطوه باللبن تارة وخلطوه بالتوت تارة .. ومن الأصناف المغرية جدا لنا في السفرة الأولى من الإفطار [ اللقيمات ] فكثيرا ما جئت للسفرة طمعا في التهام كل ما لذ وطاب منها ، ولن ننسى الماء كعنصر ضروري وأساسي في السفرة الأولى ... إلا أنه وجد منافسة شرسة من المريسة !!
بشقاوة الأطفال كنت أقترب من السفرة شيئا فشيئا ، طمعا في [ اللقيمات ] ، ووالدي يرمقني بعين فيها حدة ، لكني لا أبالي أمام إغراء اللقيمات ... لكن والدي يعمد إلى تصريفي عن الهدف وشغلي عنه ، فيعمد إلى إصدار أمره لي بأن أترقب صوت المؤذن ، لأنه في ذلك الوقت لم تعرف مساجد قريتي بعد مكبرات الصوت ، ولم تعرف حتى الكهرباء !!
ويتم اختيار المؤذن بحسب قوة صوته حتى لو كان صوته من أنكر الأصوات ..
ولكي يصل صوته للجميع فإنه يصعد على عريش في المسجد ، ثم يؤذن بأعلى صوته واضعا يديه في أذنيه مع الالتفات ذات اليمين وذات الشمال !!
أصعد فوق سطح المنزل أترقب صوت الأذان ، فإذا بي أجد جميع أبناء القرية في سفوح الجبال أو على سطوح المنازل ، يبدو أنها تصريفة متفق عليها في هيئة الأمم القروية !!
يرد عليها الصغار بمكيدة عفوية طفولية .. إذ يقومون برفع الأذان قبل موعد الإفطار ظنا منهم أنهم يستطيعون إيهام أهلهم بأصواتهم الطفولية بأنها صوت المؤذن !!
من بعيد نشاهد المؤذن يشق الطريق باتجاه المسجد ، يحمل في يديه قدحا فيه تمر وآخر فيه المشروب الخمري الذي لا يستطيع أهل القرية التخلي عنه وهو المريسة .. وهو يشق الطريق يتبادر لذهني مجموعة من الأسئلة حول المؤذن وإفطاره ...
هل يؤذن أولا ثم يفطر ؟
أم يفطر أولا ثم يؤذن ؟
ولو قدم الإفطار على الأذان هل يكون آثما ويعتبر صيامه باطلا ؟
تتابع الأسئلة في مخيلتي .. ولا يقطعها إلا صوته وهو يرتفع بصوت الحق [ الله أكبر ، الله أكبر ]
نتسابق نبشر الأهل [ أذن ، أذن ، أذن ، أذن ] وما أن نصل إليهم إلا ونجدهم قد التهموا ما جادت به السفرة .. وخاصة [ اللقيمات ] فنتوعدهم أننا في الغد لن نترقب صوت المؤذن !!
يتبع