هناك .. كان يقاومُ البكاء رجلٌ يعتليه الشّحوب ويمارس الفقد على وجهه عنجهيته و استعراض قدراته على سـرقــة النّبض من أوردة الحياة !
كان صوتُ ذاكرته غريباً , تارةً يعلو وكأنّه سوطٌ يمارس تعذيب أحدهم , وتارةً اخرى يجهش بالبكاء فكأنّه هو المُعذّب !
اقتربت روحها أكثر من نظراته التائهة , شيءٌ ما يمزّق صدره ويُخرج كلَّ ما جمعته السنين في روحه من ألم !
كلمات والده في طفولته عن حُلمه في أن يصبح ذات يومٍ رجلاً يحمل اسم العائلة وينجب أولاداً كثيرين يملأون أدراج ذلك البيت العريق , يقطفون حبّات الليمون من أغصان تلك الشجرة المتعربشة أغضانها على جدرانه , و تتساقط الياسمينات البيضاء فوق فرحهم كلّما ملأوا أركانه باصوات ضحكاتهم ..
ثم صدمتهُ الأولى بعدَ أن اختارها حبيبةً تحمل أحلامه وتنجبَ أمنياته .. صدمتُه بانّه الوحيد الذي يقف عائقاً امام كل السّعادة التي وعد بها نفسه و هي و والده !
انهيار كلّ شيء فجأة ووقوفه أمام مشكلته كأنّها نهاية المطاف , ثم قسوته عليها تلك المخلصة التي ركعت عند أقدامه ترتجي صبرَه و تقوّي عزيمته و تطلب منهُ ان يسمَحَ لها بالبقاء بجانبه اثناء معركته مع الحُلم ..
تذكّر أيضاً كيف أصرّ أنها السّبب في كلّ ذلك , وكيفَ رمى باخلاصها عرض الحائط و ألحّ ان يبقى وحيداً يبحث في خباب الخيال عن منفذٍ لما هو فيه ..
اليوم .. بعد خمس سنوات يقف هو هنا وحيداً بعد أن تركته زوجته الثانية يعاني ألم الذاكرة بعد أن رآها_تلكَ التي كانت يوماً حبيبتَه _ تمشي برفقة طفلٍ صغير كالحلم .. يشبه عينيها !
.
.
عاد خيال " هو " إلى ذاكرتها رغم أنّه لم يفارقها.. عاد بسوط غضبه يجلد الذاكرة , تذكر كيف كان يُطلِقُ غضبه على امتدادات لهفتها كلّما أثارت أرقه مشكلةً ما ..
ولكنّ ابتسامةً خفيّة تسلّلت إلى روحها , حين تذكّرت كيف كان كثيراً يحتضن حزنها بهدوئه !
" ياااااااااااه يا أنت , ألا خلاصَ من احتلالك للذاكرة " خرجت تلك الكلمات مرافقةً لدمعة نجحت في الخروج من مُعتقل تظاهرها بالقوّة واللامبالاة !
......