![]() |
جواز سفر .. !
:
أوّلَ مرّةٍ قصدتُ فيها بوّابةَ الرّحيل , كنتُ بحجمِ الحزنِ في وطني .. كنتُ بحجمِ الأرقِ في أعينِ المظلومينَ و بحجمِ الجوعِ في ثغرِ ذاكَ الطّفل الواقفِ على ناصيةِ شارعنا . كنتُ كما زنزاناتِ القهرِ الانفراديّة , بحرّاسِ ضئيلةٍ على أبوابها , و بنورٍ يتسلّلُ كلصٍّ حزينٍ في ليلةِ شتاءٍ باردة .. كنتُ أنوءُ بمعطفٍ يُثقلُ جناحيّ المكسورتين , ما لبثتُ ان رميته من علِ ,ما أن تمكّنتُ من ملامسةِ الغيم .. وجدتُني أفكّرُّ بتفاصيلَ صغيرة بقدرِ الفرحِ في وطني , بجارتنا و قد انجبت مولوداً ذكَراً , بأبي يحملني و يدي الصّغيرة تُمسكُ امتيازَ اجتيازي للصفِّ الأوّل , بصديقتي تقودُ درّاجتها الجديدة , و تضحكُ أمامَ الصّبيةِ الّذين تمنّت دائماً ان تكونَ مثلهم .. بفرحِ أمّي , إذ تحملُ داليةُ العنبِ عنقودها الأوّل , و برضا سائقِ سيّارةِ الأجرة , إذ يرمي لهُ أحدهم ببضعة قروشٍ .. بوطني إذ يرفعُ راياتِ الفرحِ لذكرى انتصارهِ الأوّل .. و بعينينِ رجلٌ حزين , يدركُ وحدَهُ طعمَ ذلك الانتصار و طعم الخيبةِ لذكراه . كنتُ وحدي ملّاحةَ الحزنِ على متنِ جوازِ سفري , أحملُ في رقبتي خطيئةَ وطنٍ , يئنُّ تحتَ وجعِ أبنائه و يحتوي جوعهم فقط ! كنتُ وحدي و ليسَ معي سوى حقيبةٍ و معطفٍ و جوازَ سفر ... و جناحَ نورسٍ جريح ! |
|
: أدركتُ في أوّلِّ اقلاعٍ لي خارجَ حدودِ وطني , كم منَ القيودِ يحتفظُ بها وطني كتذكاراتٍ لخيباتٍ تكرّرت على مرِّ الأزمنة .. أدركتُ أنّ الحريّةَ تعاني من آثارِ عمليّاتِ التّجميلِ الّتي تحدثُ في الخفاء , وأنّ الوطنَ وحدهُ ينظرُ إلى السّاعةِ في حينَ انشغلَ الجميعُ بالتفرّجِّ على سجناءِ الحلمِ و المحتّجينَ على الحقائقِ السّبع , و باحصاءِ أوراقهم الشّخصية , الّتي تُثبت أنّهم كانوا يوماً أبناءً لرحمِ المجدِ المراقِ على بوّاباتِ التّاريخ .. أدركتُ أنّ الحبّ في وطني استعباد , و أنّ الفرحَ ذنبٌ عليكَ أن تدفعَ وزنهُ دمعاً حتّى يستقيمَ بكَ الميزان , و تنفعكَ حججُ المنطقِ الكاذبة .. أدركتُ انّ جوازَ سفري هذا , ما هوَ إلا قيدٌ على هيئةِ فراشة ! |
مقابلَ عينيَّ المشدوهتين بذاكرةٍ اكتشفتها للتوّ , كان يجلسُ وجهٌ شاحبٌ بدا عليهِ و كأنّه ماتَ قبلَ ثانية , ثمَّ عادَ للحياة مُكرهاً على التّنفس .. كان يتملّكني فضولٌ لأعرفَ انتماءَ ذلكَ الموتِ في صدره , و مصدرَ الحزنِ في يديهِ في وطنٍ يُباعُ الفرحُ فيهِ بالمجّان .. كانَت عيناهُ تقصُّ لي حكايا أناسٍ مرّوا بالنّهاياتِ بلا خوفٍ أو هلع , و بلا جوازاتِ سفر ! و كانَ شريانهُ السّباتي شفّافاً كأحلامِ الأطفال , ممحوّاً كالفرحِ المسروقِ في صدورِ العشّاقِ في مدينتي , هادئاً كالأمنياتِ في أعينِ الأسماكِ القاطنةِ أعماقَ البحر .. كنتُ أرقبهُ و أشعرُ بأنّني أراني فيه , أرى نظرةَ أبي الأخيرة لي و دمعةَ أخي الأصغر البريئة تركضُ على وجهِ أبي البارد , كنتُ أرى دمَ طفولتي , إذ سباهُ الخوفُ و حكاياتُ الغولِ الكبير , الذي اغتال أحلامَ الأطفال .. كنتُ أرى الوجوهَ تحتلُّ الأقفاصَ و تُقفلُ النّوافذَ لتتعفّنَ و تصرخَ أين نحنُ من مرآةِ الانتماء ! و حينَ تغلّبتُ على كلِّ الأسماكِ الصّغيرةِ الّتي طفَت على سطحِ ذاكرتي تلتقطُ بعضَ الأوكسجين , و أردتُ أن أُرضي للمرّةِ نصفِ الأولى شهيّةَ عقلي في السّؤال , كانَ ذاكَ الوجهُ قد اختفى .. بحثتُ عنهُ في كلِّ مكان و سألتُ كلّ الوجوه عنه , و لكنّهم أكّدوا لي أنني وحدي من رآه ! |
: من الأعلى كان يبدو الوطنُ كاملاً , كنتُ أراهُ للمرّةِ الأولى واحداً , قطعةً متكاملَةً تختلطُ فيها جميعُ الألوان , و لكنّها واحدة بكلّ تناقضاتها .. نحنُ نرى الوطنَ دائماً مقسّماً , نراهُ بعينِ الرّضا , ماردَ حنينٍ عملاقٍ في داخلنا , يهبُّ كلّما اقتربَ أحدٌ منهُ بحرفٍ , و يتسلّقُ شجرةَ الفاصولياء ليبني لكبرياءنا بيتاً فوقَ الغيم , و نراهُ بعينِ السّخطِ , رغبةً بالهروبِ الغاضب , طفلاً خائفاً مذعوراً يُسارعُ لاقتطاعِ الشّجرة , فتنهارُ أحلامنا فوقَ الغيم .. و تسقط ! من الأعلى , تستطيعُ أن تشعرَ للمرّةِ الاولى أنَّ وطنكَ يُمكنُ أن يكونَ بالأبيضِ و الأسودِ معاً و تشعرُ أنّه مثلكَ , تملؤهُ الأفراح و الأحزان , و يغلبُه الشّرُّ حيناً , تماماً كما يفعلُ الخير .. من الأعلى تستطيعُ أن تدركَ أنّه يحتضنكَ بأكملك , و يزرعُ فيكَ طفولتَكَ و أحلامَكَ و ذاكرتَكَ الأولى .. |
بعدَ أن تُمضي ساعاتٍ معلّقاً بينَ زرقةِ السّماءِ و بياضِ ذاكرتكَ و سوادِ الحزنِ في عيني طفولتكَ , تبدأُ بالشّعورِ بقيمةِ تفاصيلِ الوطنِ الصّغيرة , الجريدة اليوميّة و كلُّ السّطورِ السّاخرةِ من أفكاركَ الثّائرة , كلّ الصّور الّتي تُلغي تلويحاتكَ البائسة لوطنٍ يبقى حتّى بعد رحيلك , و تلّوحُ لهُ بمنديلٍ يخصّه ! فنجانُ القهوةِ الّذي يحملُ ذاكرةَ احتراقَ لسانكَ للمرّةِ الأولى بطعمِ نضجِ الوطنِ في داخلك , و قطعةُ خبزٍ صغيرة اسمّرت بشمسِ الحقولِ الصّفراءِ في بلدك ,تُجبرها على التّحدثِ عن ظُلمِ الأرضِ فترفضُ و تتسمّرُ في بلعومك ! حتّى جاركَ في المقعدِ و أطفالهُ الّذين يمعنون في الصّراخِ و البكاء , و التفافَ حاجبيهِ من الغضبِ و الرأفة , يأخذانكَ إلى مساءاتِ الوطن و صوتِ من حولكَ و صمتهم امامَ نشرةِ الأخبار . بعدَ ساعاتٍ من شعوركَ بالحريّةِ المقيّدة ستبدأُ في محاولةِ التّخلصِ من الوطن و ستكتشفُ - للمرّة ليست الأولى - فشلك ! |
يبدوُ الطّريقُ طويلاً جدّاً حينَ يكونُ وراءَكَ الوطن , و تمضي و أنتَ تخافُ الالتفاتَ إلى الخلف , و لكنّك تفعل , و تعاقبُ نفسكَ بتظاهركَ باللامبالاة . اعتقدتُ أنا أيضاً أنّي لستُ مبالية , اعتقدتُ ذلكَ كثيراً و كنتُ أديرُ وجهي بثورةٍ طفوليّةٍ عنه , و اغضبُ في داخلي عليه و ألومهُ و أحمّلهُ خطيئةَ الحزنِ و أجلدهُ , ثمّ أجثو امامَ عينيهِ و أقبّلُ أصابعهُ و ترابَ أرجوحتي القديمة الّذي احتضنَ عبثي الطّفولي , و شجرةَ "النّارنجِ " تنغرسُ في جِلدهِ , فيُثمر بها / معها ألفَ سنبلةٍ و أمنية , و جدولاً صغيراً يختبئُ في ساقية , يروي عطشَ القلوبِ إلى الحبِّ و انتماءَها إلى الأرض . حين يكونُ وراءكَ الوطن , يكونُ الطريقُ طويلاً و شاقّاً و مُفضياً إليك , إليكَ وحدك , لتكونَ في مواجهةٍ مع نفسك , مع أخطائكَ و اخطائهم ,عفوكَ و غفرانهم , و ظلمكَ و جورهم , حينَ يكونُ وراءكَ الوطن , تُدركُ انّهُ الوحيدُ البريءُ من دمك , و أنّكَ و هم تحملونَ اثمَ دمه ! |
قبلَ أن تحطَّ قدميكَ على ترابِ وطنٍ آخر , حذارِ من لسعةِ بردٍ تغتالُ أطرافَ أصابعك , عليك أن تتوقّع أنَّ أرضاً أخرى لن تحتضنكَ بذاتِ الدّفء كتلكَ التي احتضنت خطواتكَ الأولى , تعثّرك , و ركضكَ هرباً و خوفاً و حُبّاً و لهفةً .. هكذا كنتُ أحدِّثُ نفسي قبلَ أن أبدأ جاهدةً في محاولةِ كتمِ أنفاسي لاستبقاءِ أكبرِ قدرٍ من الوطنِ في رئتيّ , كطفلٍ صغيرٍ لا يُحبُّ أخاهُ الأكبرَ إذ يقسو عليه , فإن أصابهُ مكروه , حزنَ عليه بكلِّ ما يحملُ من طفولةٍ و لهفة ! لكنَّ الوطنَ لم يُصبهُ مكروه , وحدها رئتي التي عانَت بردَ الأوكسجين , رغمَ شعورها بوفرته للمرّةِ الأولى ! خطوةٌ أولى , تلتها خطوةٌ أخرى و أنا أدركُ أنَّني رغمَ ثباتِ الأرضِ تحتي أكادُ أهوي , رغمَ الفرحِ الغامرِ باكتشافِ جزيرةٍ جديدةٍ للحريّة , ربّما كانت أو كانت فعلاً بلا وجع , بلا ظلم و بلا قهرِ المسافاتِ و الأصوات , رغمَ ذلك كنتُ اتعثّرُ بأنفاسي و أتلعثمُ و أنا أحاولُ جاهدةً أن ألفظَ اسمي بلغةٍ أخرى ! لأوّلِ مرّة أشعرُ أنَّ الأوراقَ على كثرتها مخرجٌ , منفذٌ للضّوء , إذ طالما ارتبطت بمخيّلتي برحلةٍ طويلةٍ من الشّقاءِ و الكذب , كانّت تركضُ إلى حقيبتي كلهفةِ عصفورٍ إلى عُشِّه و كنتُ أنا رغمَ غربتي عنها و اغترابي بها , سعيدةً باحتضانها , إذ أنّها كانت البداية , بدايةُ البداية ! |
الساعة الآن 04:22 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.